السبت، 10 يناير 2015

أبو العباس السفاح وخالد بن صفوان

كان من ندماء السفاح في الأدب و الأخبار خالد بن صفوان التميمي، و مما نقل من أخباره الطريفة أنه دخل ذات يوم على السفاح فوجده وحده، فجلس ثم قال:
"يا أمير المؤمنين، إني فكرت في أمرك، و سعة ملكك، و قد ملّكت نفسك امرأة واحدة، فإن مرضت مرضت أنت، و إن غابت غبت أنت و حرمت يا أمير المؤمنين نفسك التلذذ بالجواري الطريفات، و معرفة أخبار حالاتهن، و التمتع بما تشتهي منهن. فإن منهن يا أمير المؤمنين الطويلة التي تشتهي لجسمها في الغيداء، و إن منهن البضة البيضاء التي تحب لروعتها، و السمراء اللعساء و الصفراء العجزاء الذهبية من مولدات المدينة و الطائف و اليمامة، ذوات الألسن العذبة و الجواب الحاضر، تفتن بمحادثتها و تلذ بخلوتها، و الأوساط المخصرة و الأصداع المزرفنة و العيون المكحلة و الثدي المحققة، و أين أمير المؤمنين من بنات الأحرار و النظر إلى ما عندهن و حسن الحديث منهن؟ و لو رأيتهن و رأيت زيهن و زينتهن لرأيت شيئاً حسناً".
و أخذ خالد يتمطق بلسانه و يجيد وصف الجواري و يطنب في محاسنهن بحلاوة لفظه و جودة وصفه، فشوق أبا العباس السفاح إليهن، و لما فرغ من كلامه قال له أبو العباس: ويحك يا خالد، ما سلك مسامعي كلام أحسن من هذا، فأعد علي كلامك فقد وقع مني موقعاً. فأعاد عليه خالد الكلام أحسن مما ابتدأه، ثم استأذنه في الانصراف فانصرف.
و بقي أبو العباس السفاح مفكراً فيما سمع منه مغموماً، فدخلت عليه امرأته أم سلمة، فلما رأته مطرقاً مفكراً مهموماً قالت له: إني أستغرب حالك يا أمير المؤمنين، فهل حدث أمر تكرهه، أو أتاك خبر فارتعت له؟ قال: لم يكن من ذلك شيء. قالت: فما قصتك؟ فجعل ينزوي عنها، و يتفادى من الجواب، فلم تزل تستخبره حتى أخبرها بما قاله خالد بن صفوان التميمي. قالت: فما قلت لابن الفاعلة؟ فقال السفاح: سبحان الله ينصحني و تشتمينه؟! فخرجت من عنده مغضبة، و أرسلت إلى خالد جماعة من الجند في أيديهم عصي غليظة و أمرتهم أن لا يتركوا منه عضواً صحيحاً. 
و حكى خالد عن نفسه قال: انصرفت من مجلس السفاح إلى منزلي، و أنا مسرور بما رأيت منه و إعجابه بما ألقيته إليه، و لم أشك في أنه سيبعث إلي بِصِلة، فلم ألبث طويلاً حتى رأيت جماعة من الجند، و أنا قاعد على باب داري، و لما رأيتهم قد أقبلوا نحوي أيقنت بالجائزة، ثم وقفوا علي فسألوا عني، فقلت: ها أنذا خالد بن صفوان، فسبق إلي واحد منهم و أهوى إلي بخشبة، فوثبت و دخلت منزلي
و مكثت أياماً ثلاثة على تلك الحال، لا أخرج من منزلي، و وقع في نفسي أن أم سلمة هي التي سلطت هؤلاء علي. و طلبني أبو العباس السفاح طلباً شديداًً، فلم أشعر ذات يوم إلا بقوم قد هجموا علي و قالوا لي: أجب أمير المؤمنين. فأيقنت بالموت و قلت: إنا لله و إنا إليه راجعون، لم أر دم شيخ أضيع من دمي. فركبت إلى دار السفاح و ليس علي لحم و لا دم من الخوف، فلقيته منفرداً، و رأيت في المجلس بيتاً عليه ستور رقيقة و سمعت حركة خلف الستور. و قد شعر خالد بن صفوان أن وراء الستور أم سلمة أو من تنقل لها الحديث، قال خالد: فقال لي أبو العباس لم أرك منذ ثلاث ليالي. فقلت: كنت عليلاً يا أمير المؤمنين. قال: ويحك إنك وصفت لي في آخر دخلة من أمر النساء و الجواري ما لم يسلك مسامعي قد كلام أحسن منه، فأعده علي، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب اشتقت اسم الضرة من الضرر، و أن أحداًً ما تزوج من النساء أكثر من واحدة إلا ضر و تنغص، فقال: ويحك لم يكن هذا في الحديث، قلت: بلى و الله يا أمير المؤمنين، و أخبرتك أن الثلاث من النساء كأثافي القدر يُغلى عليهن (و الأثافي المناصب)، فقال أبو العباس: برئت قرابتي من رسول الله ε، إن كنت سمعت هذا منك في حديثك، فقلت: و أخبرتك أن الأربع من النساء شر مجموع لصاحبهن يشيبنه و يهرمنه و يسقمنه، قال: و الله ما سمعت هذا الكلام منك و لا من غيرك قبل هذا. قلت: بلى و الله. فقال السفاح: ويلك تكذبني؟ قلت: و تريد أن تقتلني يا أمير المؤمنين. قال: استمر في حديثك. قلت: و أخبرتك أن أبكار الجواري كالرجال. قال خالد: فسمعت الضحك من وراء الستر. فقلت: نعم و أخبرتك أن بني مخزوم رياحين قريش، و أنت عندك ريحانة من الرياحين و أنت تطمع بعينك إلى حرائر النساء و غيرهن من الإماء، فسمعت من وراء الستر قائلة تقول: صدقت و الله يا عماه و بررت، بهذا حدثت أمير المؤمنين و لكنه بدل و غير و نطق عن لسانك، فقال السفاح: ما لك، قاتلك الله و أخزاك، و فعلبك و فعل؟.. فتركته و خرجت منسلاً و قد أيقنت بالحياة. و ما شعرت إلا برسل أم سلمة قد صاروا إلي و معهم عشرة آلاف درهم و تخت ثياب و برذون.

posted from Bloggeroid

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق